فصل: تفسير الآيات رقم (1- 21)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


سورة الإسراء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 21‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏1‏)‏ وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ‏(‏2‏)‏ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ‏(‏3‏)‏ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏4‏)‏ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ‏(‏5‏)‏ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ‏(‏6‏)‏ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ‏(‏7‏)‏ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ‏(‏8‏)‏ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏10‏)‏ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ‏(‏12‏)‏ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ‏(‏13‏)‏ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ‏(‏14‏)‏ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏17‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ‏(‏18‏)‏ وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ‏(‏19‏)‏ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ‏(‏20‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

هذه السورة سورة الإسراء مكية، وهي تبدأ بتسبيح الله وتنتهي بحمده؛ وتضم موضوعات شتى معظمها عن العقيدة؛ وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة؛ إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء‏.‏ وطرف من قصة آدم وإبليس وتكريم الله للإنسان‏.‏

ولكن العنصر البارز في كيان السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف القوم منه في مكة‏.‏ وهو القرآن الذي جاء به، وطبيعة هذا القرآن، وما يهدي إليه، واستقبال القوم له‏.‏ واستطراد بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسل، وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير طابع الخوارق الحسية وما يتبعها من هلاك المكذبين بها‏.‏ وإلى تقرير التبعة الفردية في الهدى والضلال الاعتقادي، والتبعة الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع‏.‏‏.‏ كل ذلك بعد أن يعذر الله سبحانه إلى الناس، فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل ‏{‏وكل شيء فصلناه تفصيلا‏}‏‏.‏

ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه‏.‏ ففي مطلعها‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرية المؤمنين مع نوح ‏{‏إنه كان عبداً شكورا‏}‏‏.‏‏.‏ وعند ذكر دعاوى المشركين عن الآلهة يعقب بقوله‏:‏ ‏{‏سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏}‏ وفي حكاية قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآن‏:‏ ‏{‏ويقولون‏:‏ سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا‏}‏ وتختم السورة بالآية ‏{‏وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرا‏}‏ في تلك الموضوعات المنوعة حول ذلك المحور الواحد الذي بيّنا، يمضي سياق السورة في أشواط متتابعة‏.‏

يبدأ الشوط الأول بالإشارة إلى الإسراء‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله‏}‏ مع الكشف عن حكمة الإسراء ‏{‏لنريه من آياتنا‏}‏‏.‏‏.‏ وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل، من نكبة وهلاك وتشريد مرتين، بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم بثالثة ورابعة ‏{‏وإن عدتم عدنا‏}‏‏.‏‏.‏ ثم يقرر أن الكتاب الأخير القرآن يهدي للتي هي أقوم، بينما الإنسان عجول مندفع لا يملك زمام انفعالاته‏.‏ ويقرر قاعدة التبعة الفردية في الهدى والضلال، وقاعدة التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك‏.‏

ويبدأ الشوط الثاني بقاعدة التوحيد، ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك فيه، ويشدها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستنداً إليه‏.‏

ويتحدث في الشوط الثالث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى الله، وعن البعث واستبعادهم لوقوعه، وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم ويأمر المؤمنين أن يقولوا قولاً آخر، ويتكلموا بالتي هي أحسن‏.‏

وفي الشوط الرابع يبين لماذا لم يرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالخوارق فقد كذب بها الأولون، فحق عليهم الهلاك اتباعاً لسنة الله؛ كما يتناول موقف المشركين من إنذار الله لهم في رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم وطغيانهم‏.‏ ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس، وإعلانه أنه سيكون حرباً على ذرية آدم‏.‏ يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الضلال الذي يبدو من المشركين‏.‏ ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم في تكريم الإنسان، وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم‏:‏ ‏{‏فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا‏.‏ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا‏}‏ ويستعرض الشوط الأخير كيد المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحاولة إخراجه من مكة‏.‏ ولو أخرجوه قسراً ولم يخرج هو مهاجراً بأمر الله لحل بهم الهلاك الذي حل بالقرى من قبلهم حين أخرجت رسلها أو قتلتهم‏.‏ ويأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمضي في طريقه يقرأ قرآنه ويصلي صلاته، ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل، ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين، بينما الإنسان قليل العلم ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏}‏ ويستمر في الحديث عن القرآن وإعجازه‏.‏ بينما هم يطلبون خوارق مادية، ويطلبون نزول الملائكة، ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف أو جنة من نخيل وعنب، يفجر الأنهار خلالها تفجيراً‏!‏ أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعاً‏.‏ أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب مادي معه يقرأونه‏.‏‏.‏ إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة، لا طلب الهدى والاقتناع‏.‏ ويرد على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة، ويكل الأمر إلى الله‏.‏ ويتهكم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات كلها بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله على سعتها وعدم نفادها لأمسكوا خوفاً من الإنفاق‏!‏ وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبح لله، وأن الآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل فلم تؤد إلى إيمان المتعنتين الذين استفزوه من الأرض، فأخذهم الله بالعذاب والنكال‏.‏

وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه‏.‏

القرآن الذي نزل مفرقاً ليقرأه الرسول على القوم زمنا طويلاً بمناسباته ومقتضياته، وليتأثروا به ويستجيبوا له استجابة حية واقعية عملية‏.‏ والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخشوع والتأثر إلى حد البكاء والسجود‏.‏ ويختم السورة بحمد الله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل‏.‏ كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه‏.‏

وقصة الإسراء ومعها قصة المعراج إذ كانتا في ليلة واحدة الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس‏.‏ والمعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلى وسدرة المنتهى، وذلك العالم الغيبي المجهول لنا‏.‏‏.‏ هذه القصة جاءت فيها روايات شتى؛ وثار حولها جدل كثير‏.‏ ولا يزال إلى اليوم يثور‏.‏

وقد اختلف في المكان الذي أسري منه، فقيل هو المسجد الحرام بعينه وهو الظاهر وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم- «بينما أنا في المسجد في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق» وقيل‏:‏ أسري به من دار أم هانئ بنت أبي طالب‏.‏ والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ الحرم كله مسجد‏.‏

«وروي أنه كان نائماً في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته، وقص القصة على أم هانئ وقال‏:‏» مثل لي النبيون فصليت بهم «ثم قام ليخرج إلى المسجد، فتشبثت أم هانئ بثوبه، فقال‏:‏» مالك‏؟‏ «قالت‏:‏ أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم‏.‏ قال‏:‏» وإن كذبوني «‏.‏ فخرج فجلس إليه أبو جهل، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء‏.‏ فقال أبو جهل‏:‏ يا معشر بني كعب ابن لؤي هلم‏.‏ فحدثهم، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً؛ وارتد ناس ممن كان آمن به؛ وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال‏:‏ أوقال ذلك‏؟‏ قالوا نعم‏.‏ قال‏:‏ فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق‏.‏ قالوا‏:‏ فتصدقه في أن يأتي في الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح‏؟‏ قال‏:‏ نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك‏.‏ أصدقه بخبر السماء‏!‏ فسمي الصدّيق» وكان منهم من سافر إلى بيت المقدس فطلبوا إليه وصف المسجد، فجلى له، فطفق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا‏:‏ أما النعت فقد أصاب‏.‏ فقالوا‏:‏ أخبرنا عن عيرنا‏.‏ فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها؛ وقال‏:‏ تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق‏.‏ فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية لمراقبة مقدم العير فقال قائل منهم‏:‏ هذه والله الشمس قد شرقت‏.‏ فقال آخر‏:‏ وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق، كما قال محمد‏.‏

‏.‏ ثم لم يؤمنوا‏!‏‏.‏‏.‏ وفي الليلة ذاتها كان العروج به إلى السماء من بيت المقدس‏.‏

واختلف في أن الإسراء كان في اليقظة أم في المنام‏.‏ فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ والله ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عرج بروحه‏.‏ وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها‏.‏ وفي أخبار أخرى أنه كان بروحه وجسمه، وأن فراشه عليه الصلاة والسلام لم يبرد حتى عاد إليه‏.‏

والراجح من مجموع الروايات ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك فراشه في بيت أم هانئ إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسري به وعرج‏.‏ ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد‏.‏

على أننا لا نرى محلاً لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديماً والذي يثور حديثاً حول طبيعة هذه الواقعة المؤكدة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسافة بين الإسراء والمعراج بالروح أو بالجسم، وبين أن تكون رؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة‏.‏‏.‏ المسافة بين هذه الحالات كلها ليست بعيدة؛ ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئاً وكونها كشفاً وتجلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة‏.‏‏.‏ والذين يدركون شيئاً من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعة شيئاً‏.‏ فأمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة، حسب ما اعتاده وما رآه‏.‏ والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة الله‏.‏ أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى على غير قياس أو عادة لبقية البشر وهذه التجلية لمكان بعيد، أو عالم بعيد؛ والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال بالملأ والتلقي عنه‏.‏ وقد صدق أبو بكر رضي الله عنه وهو يرد المسألة المستغربة المستهولة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول‏:‏ إني لأصدقه بأبعد من ذلك‏.‏ أصدقه بخبر السماء‏!‏

ومما يلاحظ- بمناسبة هذه الواقعة وتبين صدقها للقوم بالدليل المادي الذي طلبوه يومئذ في قصة العير وصفتها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمع لتخوف أم هانئ رضي الله عنها من تكذيب القوم له بسبب غرابة الواقعة‏.‏ فإن ثقة الرسول بالحق الذي جاء به، والحق الذي وقع له، جعلته يصارح القوم بما رأى كائنا ما كان رأيهم فيه‏.‏ وقد ارتد بعضهم فعلاً، واتخذها بعضهم مادة للسخرية والتشكيك‏.‏ ولكن هذا كله لم يكن ليقعد الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجهر بالحق الذي آمن به‏.‏

‏.‏ وفي هذا مثل لأصحاب الدعوة أن يجهروا بالحق لا يخشون وقعه في نفوس الناس، ولا يتملقون به القوم، ولا يتحسسون مواضع الرضى والاستحسان، إذا تعارضت مع كلمة الحق تقال‏.‏

كذلك يلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتخذ من الواقعة معجزة لتصديق رسالته، مع إلحاح القوم في طلب الخوارق وقد قامت البينة عندهم على صدق الإسراء على الأقل ذلك أن هذه الدعوة لا تعتمد على الخوارق، إنما تعتمد على طبيعة الدعوة ومنهاجها المستمد من الفطرة القويمة، المتفقة مع المدارك بعد تصحيحها وتقويمها‏.‏ فلم يكن جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالواقعة ناشئاً عن اعتماده عليها في شيء من رسالته‏.‏ إنما كان جهراً بالحقيقة المستيقنة له لمجرد أنها حقيقة‏:‏

والآن نأخذ في الدرس الأول على وجه التفصيل‏:‏

‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير‏}‏‏.‏‏.‏

تبدأ السورة بتسبيح الله، أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف، وأليق صلة بين العبد والرب في ذلك الأفق الوضيء‏.‏

وتذكر صفة العبودية‏:‏ ‏{‏أسرى بعبده‏}‏ لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر؛ وذلك كي لا تنسى هذه الصفة، ولا يلتبس مقام العبودية، بمقام الألوهية، كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام، بسبب ما لابس مولده ووفاته، وبسبب الآيات التي أعطيت له، فاتخذها بعضهم سبباً للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية‏.‏‏.‏ وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة، من قريب أو من بعيد‏.‏

والإسراء من السرى‏:‏ السير ليلاً‏.‏ فكلمة ‏{‏أسرى‏}‏ تحمل معها زمانها‏.‏ ولا تحتاج إلى ذكره‏.‏ ولكن السياق ينص على الليل ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً‏}‏ للتظليل والتصوير على طريقة القرآن الكريم فيلقي ظل الليل الساكن، ويخيم جوه الساجي على النفس، وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها‏.‏

والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إلى محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعاً‏.‏ وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعاً‏.‏ فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان؛ وتشمل آماداً وآفاقاً أوسع من الزمان والمكان؛ وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى‏.‏

ووصف المسجد الأقصى بأنه ‏{‏الذي باركنا حوله‏}‏ وصف يرسم البركة حافةً بالمسجد، فائضة عليه‏.‏ وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل‏:‏ باركناه‏.‏ أو باركنا فيه‏.‏ وذلك من دقائق التعبير القرآني العجيب‏.‏

والإسراء آية صاحبتها آيات‏:‏ ‏{‏لنريه من آياتنا‏}‏ والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في البرهة الوجيزة التي لم يبرد فيها فراش الرسول صلى الله عليه وسلم أياً كانت صورتها وكيفيتها‏.‏‏.‏ آية من آيات الله، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود؛ وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري، والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من هذا الجنس، الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه، وأودع فيه هذه الأسرار اللطيفة‏.‏‏.‏ ‏{‏إنه هو السميع البصير‏}‏‏.‏‏.‏ يسمع ويرى كل ما لطف ودق، وخفي على الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار‏.‏

والسياق يتنقل في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً‏}‏ إلى صيغة التقرير من الله‏:‏ ‏{‏لنريه من آياتنا‏}‏ إلى صيغة الوصف لله‏:‏ ‏{‏إنه هو السميع البصير‏}‏ وفقاً لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس‏.‏ فالتسبيح يرتفع موجها إلى ذات الله سبحانه‏.‏ وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصاً‏.‏ والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية‏.‏ وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة‏.‏

هذا الإسراء من آيات الله‏.‏ وهو نقلة عجيبة بالقياس إلى مألوف البشر‏.‏ والمسجد الأقصى هو طرف الرحلة‏.‏ والمسجد الأقصى هو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل ثم أخرجهم منها‏.‏ فسيرة موسى وبني إسرائيل تجيء هنا في مكانها المناسب من سياق السورة في الايات التالية‏:‏

‏{‏وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلاً؛ ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكورا‏.‏ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً‏.‏ فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً‏.‏ ثم رددنا لكم الكرة عليهم، وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً‏.‏ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها‏.‏ فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيراً‏.‏ عسى ربكم أن يرحمكم، وإن عدتم عدنا، وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل لا تذكر في القرآن إلا في هذه السورة‏.‏ وهي تتضمن نهاية بني إسرائيل التي صاروا إليها؛ ودالت دولتهم بها‏.‏ وتكشف عن العلاقة المباشرة بين مصارع الأمم وفشو الفساد فيها، وفاقاً لسنة الله التي ستذكر بعد قليل في السورة ذاتها‏.‏ وذلك أنه إذا قدر الله الهلاك لقرية جعل إفساد المترفين فيها سبباً لهلاكها وتدميرها‏.‏

ويبدأ الحديث في هذه الحلقة بذكر كتاب موسى التوراة وما اشتمل عليه من إنذار لبني إسرائيل وتذكير لهم بجدهم الأكبر نوح العبد الشكور، وآبائهم الأولين الذين حملوا معه في السفينة، ولم يحمل معه إلا المؤمنون‏:‏

‏{‏وآتينا موسى الكتاب، وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلاً، ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك الإنذار وهذا التذكير مصداق لوعد الله الذي يتضمنه سياق السورة كذلك بعد قليل‏.‏ وذلك إلا يعذب الله قوماً حتى يبعث إليهم رسولاً ينذرهم ويذكرهم‏.‏

وقد نص على القصد الأول من إيتاء موسى الكتاب‏:‏ ‏{‏هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلاً‏}‏ فلا يعتمدوا إلا على الله وحده، ولا يتجهوا إلا إلى الله وحده‏.‏ فهذا هو الهدى، وهذا هو الإيمان‏.‏ فما آمن ولا اهتدى من اتخذ من دون الله وكيلاً‏.‏

ولقد خاطبهم باسم آبائهم الذين حملهم مع نوح، وهم خلاصة البشرية على عهد الرسول الأول في الأرض‏.‏ خاطبهم بهذا النسب ليذكرهم باستخلاص الله لآبائهم الأولين، مع نوح العبد الشكور، وليردهم إلى هذا النسب المؤمن العريق‏.‏

ووصف نوحاً بالعبودية لهذا المعنى ولمعنى آخر، هو تنسيق صفة الرسل المختارين وإبرازها‏.‏ وقد وصف بها محمداً صلى الله عليه وسلم من قبل‏.‏ على طريقة التناسق القرآنية في جو السورة وسياقها‏.‏

في ذلك الكتاب الذي آتاه الله لموسى ليكون هدى لبني إسرائيل، أخبرهم بما قضاه عليهم من تدميرهم بسبب إفسادهم في الأرض‏.‏ وتكرار هذا التدمير مرتين لتكرر أسبابه من أفعالهم‏.‏ وأنذرهم بمثله كلما عادوا إلى الإفساد في الأرض، تصديقاً لسنة الله الجارية التي لا تتخلف‏:‏

‏{‏وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً‏}‏‏.‏‏.‏

وهذا القضاء إخبار من الله تعالى لهم بما سيكون منهم، حسب ما وقع في علمه الإلهي من مآلهم؛ لا أنه قضاء قهري عليهم، تنشأ عنه أفعالهم‏.‏ فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على أحد ‏{‏قل‏:‏ إن الله لا يأمر بالفحشاء‏}‏ إنما يعلم الله ما سيكون علمه بما هو كائن‏.‏ فما سيكون بالقياس إلى علم الله كائن، وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد، ولم يكشف عنه الستار‏.‏

ولقد قضى الله لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، وأنهم سيعلون في الأرض المقدسة ويسيطرون‏.‏ وكلما ارتفعوا فاتخذوا الارتفاع وسيلة للإفساد سلط عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم تدميرا‏:‏

‏{‏فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً‏}‏‏.‏

فهذه هي الأولى‏:‏ يعلون في الأرض المقدسة، ويصبح لهم فيها قوة وسلطان، فيفسدون فيها‏.‏

فيبعث الله عليهم عباداً من عباده أولي بأس شديد، وأولي بطش وقوة، يستبيحون الديار، ويروحون فيها ويغدون باستهتار، ويطأون ما فيها ومن فيها بلا تهيب ‏{‏وكان وعداً مفعولاً‏}‏ لا يخلف ولا يكذب‏.‏

حتى إذا ذاق بنو إسرائيل ويلات الغلب والقهر والذل؛ فرجعوا إلى ربهم، وأصلحوا أحوالهم وأفادوا من البلاء المسلط عليهم‏.‏ وحتى إذا استعلى الفاتحون وغرتهم قوتهم، فطغوا هم الآخرون وأفسدوا في الأرض، أدال الله للمغلوبين من الغالبين، ومكن للمستضعفين من المستكبرين‏:‏ ‏{‏ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً‏}‏‏.‏‏.‏

ثم تتكرر القصة من جديد‏!‏

وقبل أن يتم السياق بقية النبوءة الصادقة والوعد المفعول يقرر قاعدة العمل والجزاء‏:‏

‏{‏إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها‏}‏‏.‏‏.‏

القاعدة التي لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة؛ والتي تجعل عمل الإنسان كله له، بكل ثماره ونتائجه‏.‏ وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل، منه تنتج، وبه تتكيف؛ وتجعل الإنسان مسؤولاً عن نفسه، إن شاء أحسن إليها، وإن شاء أساء، لا يلومن إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء‏.‏

فإذا تقررت القاعدة مضى السياق يكمل النبوءة الصادقة‏:‏

‏{‏فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيراً‏}‏‏.‏‏.‏

ويحذف السياق ما يقع من بني إسرائيل بعد الكرة من إفساد في الأرض، اكتفاء بذكره من قبل‏:‏ ‏{‏لتفسدن في الأرض مرتين‏}‏ ويثبت ما يسلطه عليهم في المرة الآخرة‏:‏ ‏{‏فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم‏}‏ بما يرتكبونه معهم من نكال يملأ النفوس بالإساءة حتى تفيض على الوجوه، أو بما يجبهون به وجوههم من مساءة وإذلال‏.‏ ويستبيحون المقدسات ويستهينون بها‏:‏ ‏{‏وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة‏}‏ ويدمرون ما يغلبون عليه من مال وديار ‏{‏وليتبروا ما علوا تتبيراً‏}‏‏.‏‏.‏ وهي صورة للدمار الشامل الكامل الذي يطغى على كل شيء، والذي لا يبقي على شيء‏.‏

ولقد صدقت النبوءة ووقع الوعد، فسلط على بني إسرائيل من قهرهم أول مرة، ثم سلط عليهم من شردهم في الأرض، ودمر مملكتهم فيها تدميرا‏.‏

ولا ينص القرآن على جنسية هؤلاء الذين سلطهم على بني إسرائيل، لأن النص عليها لا يزيد في العبرة شيئاً‏.‏ والعبرة هي المطلوبة هنا‏.‏ وبيان سنة الله في الخالق هو المقصود‏.‏

ويعقب السياق على النبوءة الصادقة والوعد المفعول، بأن هذا الدمار قد يكون طريقاً للرحمة‏:‏ ‏{‏عسى ربكم أن يرحمكم‏}‏ إن أفدتم منه عبرة‏.‏

فأما إذا عاد بنوا إسرائيل إلى الإفساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية‏:‏ ‏{‏وإن عدتم عدنا‏}‏‏.‏‏.‏

ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلها‏.‏ ثم عادوا إلى الإفساد فسلط عليهم عباداً آخرين، حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم «هتلر»‏.‏

‏.‏ ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة «إسرائيل» التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات‏.‏ وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، تصديقاً لوعد الله القاطع، وفاقاً لسنته التي لا تتخلف‏.‏‏.‏ وإن غداً لناظره قريب‏!‏

ويختم السياق الآية بمصير الكافرين في الآخرة لما بينه وبين مصير المفسدين من مشاكلة‏:‏

‏{‏وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً‏}‏‏.‏‏.‏ تحصرهم فلا يفلت منهم أحد؛ وتتسع لهم فلا يند عنها أحد‏.‏

ومن هذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل، وكتابهم الذي آتاه الله لموسى ليهتدوا به فلم يهتدوا؛ بل ضلوا فهلكوا‏.‏‏.‏ ينتقل السياق إلى القرآن‏.‏ القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم‏:‏

‏{‏إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم‏}‏‏.‏‏.‏

هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم، فيشمل الهدى أقواماً وأجيالاً بلا حدود من زمان أو مكان؛ ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان‏.‏

يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق‏.‏

ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعاً بالحياة‏.‏

ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء‏.‏ ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار‏.‏ ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال‏.‏

ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض‏:‏ أفراداً وأزواجاً، وحكومات وشعوباً، ودولاً وأجناساً، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى؛ ولا تميل مع المودة والشنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض‏.‏ الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان‏.‏

ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام‏.‏

‏{‏إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً‏}‏ فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء‏.‏ فعلى الإيمان والعمل الصالح يقيم بناءه‏.‏ فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان‏.‏ الأول مبتور لم يبلغ تمامه، والثاني مقطوع لاركيزة له‏.‏ وبهما معاً تسير الحياة على التي هي أقوم‏.‏‏.‏ وبهما معاً تتحقق الهداية بهذا القرآن‏.‏

فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن، فهم متروكون لهوى الإنسان‏.‏ الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره، المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له‏:‏

‏{‏ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً‏}‏‏.‏‏.‏

ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها‏.‏ ولقد يفعل الفعل وهو شر، ويعجل به على نفسه وهو لا يدري‏.‏ أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه‏.‏‏.‏ فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادئ الهادي‏؟‏

ألا إنهما طريقان مختلفان‏:‏ شتان شتان‏.‏ هدى القرآن وهوى الإنسان‏!‏

ومن الإشارة إلى الإسراء وما صاحبه من آيات؛ والإشارة إلى نوح ومن حملوا معه من المؤمنين؛ والإشارة إلى قصة بني إسرائيل وما قضاه الله لهم في الكتاب، وما يدل عليه هذا القضاء من سنن الله في العباد، ومن قواعد العمل والجزاء؛ والإشارة إلى الكتاب الأخير الذي يهدي للتي هي أقوم‏.‏‏.‏

من هذه الإشارات إلى آيات الله التي أعطاها للرسل ينتقل السياق إلى آيات الله الكونية في هذا الوجود، يربط بها نشاط البشر وأعمالهم، وجهدهم وجزاءهم، وكسبهم وحسابهم، فإذا نواميس العمل والجزاء والكسب والحساب مرتبطة أشد ارتباط بالنواميس الكونية الكبرى، محكومة بالنواميس ذاتها، قائمة على قواعد وسنن لا تتخلف، دقيقة منظمة دقة النظام الكوني الذي يصرف الليل والنهار؛ مدبرة بإرادة الخالق الذي جعل الليل والنهار‏:‏

‏{‏وجعلنا الليل والنهار آيتين، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة، لتبتغوا فضلاً من ربكم، ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلاً؛ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشوراً، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏.‏ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏.‏ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً‏.‏ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح، وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً‏.‏ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً؛ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا‏.‏

كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظوراً‏.‏ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا‏}‏‏.‏‏.‏

فالناموس الكوني الذي يحكم الليل والنهار، يرتبط به سعي الناس للكسب‏.‏ وعلم السنين والحساب‏.‏ ويرتبط به كسب الإنسان من خير وشر وجزاؤه على الخير والشر‏.‏ وترتبط به عواقب الهدى والضلال، وفردية التبعة فلا تزر وازرة وزر أخرى‏.‏ ويرتبط به وعد الله ألا يعذب حتى يبعث رسولاً‏.‏ وترتبط به سنة الله في إهلاك القرى بعد أن يفسق فيها مترفوها‏.‏ وترتبط به مصائر الذين يطلبون العاجلة والذين يطلبون الآخرة وعطاء الله لهؤلاء وهؤلاء في الدنيا والآخرة‏.‏‏.‏ كلها تمضي وفق ناموس ثابت وسنن لا تتبدل، ونظام لا يتحول‏.‏ فليس شيء من هذا كله جزافاً‏.‏

‏{‏وجعلنا الليل والنهار آيتين، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب، وكل شيء فصلناه تفصيلاً‏}‏‏.‏‏.‏

والليل والنهار آيتان كونيتان كبيرتان تشيان بدقة الناموس الذي لا يصيبه الخلل مرة واحدة، ولا يدركه التعطل مرة واحدة، ولا يني يعمل دائباً بالليل والنهار‏.‏ فما المحو المقصود هنا وآية الليل باقية كآية النهار‏؟‏ يبدو والله أعلم أن المقصود به ظلمة الليل التي تخفى فيها الأشياء وتسكن فيها الحركات والأشباح‏.‏‏.‏ فكأن الليل ممحو إذا قيس إلى ضوء النهار وحركة الأحياء فيه والأشياء؛ وكأنما النهار ذاته مبصر بالضوء الذي يكشف كل شيء فيه للأبصار‏.‏

ذلك المحو لليل والبروز للنهار ‏{‏لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب‏}‏‏.‏‏.‏ فالليل للراحة والسكون والجِمام، والنهار للسعي والكسب والقيام، ومن المخالفة بين الليل والنهار يعلم البشر عدد السنين، ويعلمون حساب المواعيد والفصول والمعاملات‏.‏

‏{‏وكل شيء فصلناه تفصيلا‏}‏ فليس شيء وليس أمر في هذا الوجود متروكاً للمصادفة والجزاف‏.‏ ودقة الناموس الذي يصرف الليل والنهار ناطقة بدقة التدبير والتفصيل، وهي عليه شاهد ودليل‏.‏

بهذا الناموس الكوني الدقيق يرتبط العمل والجزاء‏.‏

‏{‏وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً‏.‏ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏‏.‏

وطائر كل إنسان ما يطير له من عمله، أي ما يقسم له من العمل، وهو كناية عما يعمله‏.‏ وإلزامه له في عنقه تصوير للزومه إياه وعدم مفارقته؛ على طريقة القرآن في تجسيم المعاني وإبرازها في صورة حسية‏.‏ فعمله لا يتخلف عنه وهو لا يملك التملص منه، وكذلك التعبير بإخراج كتابه منشوراً يوم القيامة‏.‏ فهو يصور عمله مكشوفاً، لا يملك إخفاءه، أو تجاهله أو المغالطة فيه‏.‏ ويتجسم هذا المعنى في صورة الكتاب المنشور، فإذا هو أعمق أثراً في النفس وأشد تأثيراً في الحس؛ وإذا الخيال البشري يلاحق ذلك الطائر ويلحظ هذا الكتاب في فزع طائر من اليوم العصيب، الذي تتكشف فيه الخبايا والأسرار، ولا يحتاج إلى شاهد أو حسيب‏:‏ ‏{‏اقرأ كتابك‏.‏

كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏‏.‏

وبذلك الناموس الكوني الدقيق ترتبط قاعدة العمل والجزاء‏:‏

‏{‏من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏‏.‏‏.‏

فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه؛ إن اهتدى فلها، وإن ضل فعليها‏.‏ وما من نفس تحمل وزر أخرى، وما من أحد يخفف حمل أحد‏.‏ إنما يسأل كل عن عمله، ويجزي كل بعمله ولا يسأل حميم حميما‏.‏‏.‏

وقد شاءت رحمة الله ألا يأخذ الإنسان بالآيات الكونية المبثوثة في صفحات الوجود، وألا يأخذه بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم، إنما يرسل إليهم الرسل منذرين ومذكرين‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏}‏ وهي رحمة من الله أن يعذر إلى العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب‏.‏

كذلك تمضي سنة الله في إهلاك القرى وأخذ أهلها في الدينا، مرتبطة بذلك الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار‏:‏

‏{‏وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً‏}‏‏.‏

والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فساداً، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها‏.‏ ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها‏.‏

والآية تقرر سنة الله هذه‏.‏ فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون، فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها، فعم فيها الفسق، فتحللت وترهلت، فحقت عليها سنة الله، وأصابها الدمار والهلاك‏.‏ وهي المسؤولة عما يحل بها لأنها لم تضرب على أيدي المترفين، ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين‏.‏ فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا، ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك، وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك‏.‏

إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف، وسنناً لا تتبدل، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فتنفذ إرادة الله وتحق كلمته‏.‏ والله لا يأمر بالفسق، لأن الله لا يأمر بالفحشاء‏.‏ لكن وجود المترفين في ذاته، دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها، وسارت في طريق الانحلال، وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقاً‏.‏

وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة‏.‏

فالإرادة هنا ليست إرادة للتوجية القهري الذي ينشئ السبب، ولكنها ترتب النتيجة على السبب‏.‏ الأمر الذي لا مفر منه لأن السنة جرت به‏.‏ والأمر ليس أمراً توجيهياً إلى الفسق، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق‏.‏

وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشئ آثارها التي لا مفر منها‏.‏ وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميراً‏.‏

هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح، قرناً بعد قرن، كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير، والله هو الخبير بذنوب عباده البصير‏:‏

‏{‏وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح، وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً‏}‏‏.‏

وبعد فإن من أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها، فلا يتطلع إلى أعلى من الأرض التي يعيش فيها، فإن الله يعجل له حظه في الدنيا حين يشاء، ثم تنتظره في الاخرة جهنم عن استحقاق‏.‏ فالذين لا يتطلعون إلى أبعد من هذه الأرض يتلطخون بوحلها ودنسها ورجسها، ويستمتعون فيها كالأنعام، ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات‏.‏ ويرتكبون في سبيل تحصيل اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم‏:‏

‏{‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً‏}‏‏.‏

‏{‏ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن، فأولئك كان سعيهم مشكوراً‏}‏‏.‏

والذي يريد الآخرة لا بد أن يسعى لها سعيها، فيؤدي تكاليفها، وينهض بتبعاتها، ويقيم سعيه لها على الإيمان‏.‏ وليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل‏.‏ والسعي للآخرة لا يحرم المرء من لذائذ الدنيا الطيبة، إنما يمد بالبصر إلى آفاق أعلى فلا يكون المتاع في الأرض هو الهدف والغاية‏.‏ ولا ضير بعد ذلك من المتاع حين يملك الإنسان نفسه، فلا يكون عبداً لهذا المتاع‏.‏

وإذا كان الذي يريد العاجلة ينتهي إلى جهنم مذموماً مدحوراً، فالذي يريد الآخرة ويسعى لها سعيها ينتهي إليها مشكوراً يتلقى التكريم في الملأ الأعلى جزاء السعي الكريم لهدف كريم، وجزاء التطلع إلى الأفق البعيد الوضيء‏.‏

إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهوام والوحوش والأنعام‏.‏ فأما الحياة للآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله، الذي خلقه فسواه، وأودع روحه ذلك السر الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه‏.‏

على أن هؤلاء وهؤلاء إنما ينالون من عطاء الله‏.‏ سواء منهم من يطلب الدنيا فيعطاها ومن يطلب الآخرة فيلقاها‏.‏ وعطاء الله لا يحظره أحد ولا يمنعه، فهو مطلق تتوجه به المشيئة حيث تشاء‏:‏

‏{‏كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك‏.‏ وما كان عطاء ربك محظورا‏}‏‏.‏

والتفاوت في الأرض ملحوظ بين الناس بحسب وسائلهم وأسبابهم واتجاهاتهم وأعمالهم، ومجال الأرض ضيق ورقعة الأرض محدودة‏.‏ فكيف بهم في المجال الواسع وفي المدى المتطاول‏.‏ كيف بهم في الآخرة التي لا تزن فيها الدنيا كلها جناح بعوضة‏؟‏

‏{‏انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً‏}‏‏.‏

فمن شاء التفاوت الحق، ومن شاء التفاضل الضخم، فهو هناك في الآخرة‏.‏ هنالك في الرقعة الفسيحة، والآماد المتطاولة التي لا يعلم حدودها إلا الله‏.‏ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون لا في متاع الدنيا القليل الهزيل‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 39‏]‏

‏{‏لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ‏(‏22‏)‏ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ‏(‏23‏)‏ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ‏(‏24‏)‏ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ‏(‏25‏)‏ وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ‏(‏27‏)‏ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ‏(‏28‏)‏ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ‏(‏29‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏30‏)‏ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ‏(‏31‏)‏ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏32‏)‏ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ‏(‏33‏)‏ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ‏(‏34‏)‏ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏35‏)‏ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ‏(‏36‏)‏ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ‏(‏37‏)‏ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

في الدرس الماضي ربطت قواعد العمل والجزاء، والهدى والضلال، والكسب والحساب‏.‏‏.‏ إلى الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار‏.‏ وفي هذا الدرس تربط قواعد السلوك والآداب والتكاليف الفردية والاجتماعية إلى العقيدة في وحدة الله، كما تربط بهذه العروة الوثقى جميع الروابط وتشد إليها كل الوشائج، في الأسرة وفي الجماعة وفي الحياة‏.‏

وفي الدرس الماضي ورد ‏{‏إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم‏}‏ وورد‏:‏ ‏{‏وكل شيء فصلناه تفصيلاً‏}‏ ففي هذا الدرس يعرض شيئاً من أوامر هذا القرآن ونواهية، مما يهدي للتي هي أقوم، ويفصل شيئاً مما اشتمل عليه من قواعد السلوك في واقع الحياة‏.‏

يبدأ الدرس بالنهي عن الشرك، وبإعلان قضاء الله بعبادته وحده‏.‏ ومن ثم تبدأ الأوامر والتكاليف‏:‏ بر الوالدين، وإيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل، في غير إسراف ولا تبذير‏.‏ وتحريم قتل الذرية، وتحريم الزنا، وتحريم القتل‏.‏ ورعاية مال اليتيم، والوفاء بالعهد، وتوفية الكيل والميزان، والتثبت من الحق، والنهي عن الخيلاء والكبر‏.‏‏.‏‏.‏ وينتهي بالتحذير من الشرك‏.‏ فإذا الأوامر والنواهي والتكاليف محصورة بين بدء الدرس وختامه، مشدودة إلى عقيدة التوحيد التي يقوم عليها بناء الحياة‏.‏

‏{‏لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموماً مخذولا‏}‏‏.‏

إنه النهي عن الشرك والتحذير من عاقبته، والأمر عام، ولكنه وجه إلى المفرد ليحس كل أحد أنه أمر خاص به، صادر إلى شخصه‏.‏ فالاعتقاد مسألة شخصية مسؤول عنها كل فرد بذاته، والعاقبة التي تنتظر كل فرد يحيد عن التوحيد أن ‏{‏يقعد‏}‏ ‏{‏مذموماً‏}‏ بالفعلة الذميمة التي أقدم عليها، ‏{‏مخذولاً‏}‏ لا ناصر له، ومن لا ينصره الله فهو مخذول وإن كثر ناصروه‏.‏ ولفظ ‏{‏فتقعد‏}‏ يصور هيئة المذموم المخذول وقد حط به الخذلان فقعد، ويلقي ظل الضعف فالقعود هو أضعف هيئات الإنسان وأكثرها استكانة وعجزاً، وهو يلقي كذلك ظل الاستمرار في حالة النبذ والخذلان، لأن القعود لا يوحي بالحركة ولا تغير الوضع، فهو لفظ مقصود في هذا المكان‏.‏

‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏‏.‏‏.‏

فهو أمر بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك‏.‏ أمر في صورة قضاء‏.‏ فهو أمر حتمي حتمية القضاء‏.‏ ولفظة ‏{‏قضى‏}‏ تخلع على الأمر معنى التوكيد، إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء ‏{‏ألا تعبدوا إلا إياه‏}‏ فتبدو في جو التعبير ظلال التوكيد والتشديد‏.‏

فإذا وضعت القاعدة، وأقيم الأساس، جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية، ولها في النفس ركيزة من العقيدة في الله الواحد، توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال‏.‏

والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة، هي رابطة الأسرة، ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة الله، إعلاناً لقيمة هذا البر عند الله‏:‏

‏{‏وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما‏:‏ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل‏:‏ رب ارحمهما كما ربياني صغيرا‏}‏‏.‏

بهذه العبارات الندية، والصور الموحية، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء‏.‏ ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام‏.‏ إلى الذرية‏.‏ إلى الناشئة الجديدة‏.‏ إلى الجيل المقبل‏.‏ وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء‏.‏ إلى الأبوة‏.‏ إلى الحياة المولية‏.‏ إلى الجيل الذاهب‏!‏ ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف، وتتلفت إلى الآباء والأمهات‏.‏

إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد‏.‏ إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات‏.‏ وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر؛ كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية إن أمهلهما الأجل وهما مع ذلك سعيدان‏!‏

فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله، ويندفعون بدورهم إلى الأمام‏.‏ إلى الزوجات والذرية‏.‏‏.‏ وهكذا تندفع الحياة‏.‏

ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء‏.‏ إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقة كله حتى أدركه الجفاف‏!‏

وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله‏.‏

ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال؛ وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان‏:‏

‏{‏إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما‏}‏‏.‏‏.‏ والكبر له جلاله، وضعف الكبر له إيحاؤه؛ وكلمة ‏{‏عندك‏}‏ تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف‏.‏‏.‏ ‏{‏فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما‏}‏ وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق، وما يشي بالإهانة وسوء الأدب‏.‏‏.‏ ‏{‏وقل لهما قولاً كريماً‏}‏ وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما بشيء بالإكرام والاحترام‏.‏‏.‏ ‏{‏واخفض لهما جناح الذل من الرحمة‏}‏ وهنا يشف التعبير ويلطف، ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان‏.‏ فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عيناً، ولا يرفض أمراً‏.‏ وكأنما للذل جناح يخفضه إيذاناً بالسلام والاستسلام‏.‏ ‏{‏وقل‏:‏ رب ارحمهما كما ربياني صغيرا‏}‏ فهي الذكرى الحانية‏.‏ ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان‏.‏ وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع، ورعاية الله أشمل، وجناب الله أرحب‏.‏ وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء‏.‏

قال الحافظ أبو بكر البزار بإسناده عن بريدة عن أبيه‏:‏

«أن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها فسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل أديت حقها‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ ولا بزفرة واحدة»‏.‏

ولأن الانفعالات والحركات موصولة بالعقيدة في السياق، فإنه يعقب على ذلك برجع الأمر كله لله الذي يعلم النوايا، ويعلم ما وراء الأقوال والأفعال‏:‏

‏{‏ربكم أعلم بما في نفوسكم، إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا‏}‏‏.‏

وجاء هذا النص قبل أن يمضي في بقية التكاليف والواجبات والآداب ليرجع إليه كل قول وكل فعل؛ وليفتح باب التوبة والرحمة لمن يخطئ أو يقصر، ثم يرجع فيتوب من الخطأ والتقصير‏.‏

وما دام القلب صالحاً، فإن باب المغفرة مفتوح‏.‏ والأوابون هم الذين كلما أخطأوا عادوا إلى ربهم مستغفرين‏.‏

ثم يمضي السياق بعد الوالدين إلى ذوي القربى أجمعين؛ ويصل بهم المساكين وابن السبيل، متوسعاً في القرابات حتى تشمل الروابط الإنسانية بمعناها الكبير‏:‏

‏{‏وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفوراً؛ وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها، فقل لهم قولاً ميسورا‏}‏‏.‏

والقرآن يجعل لذي القربى والمسكين وابن السبيل حقاً في الأعناق يوفى بالإنفاق‏.‏ فليس هو تفضيلاً من أحد على أحد؛ إنما هو الحق الذي فرضه الله، ووصله بعبادته وتوحيده‏.‏ الحق الذي يؤديه المكلف فيبرئ ذمته، ويصل المودة بينه وبين من يعطيه، وإن هو إلا مؤد ما عليه لله‏.‏

وينهى القرآن عن التبذير كما يفسره ابن مسعود وابن عباس الإنفاق في غير حق‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً، ولو أنفق مُدًّا في غير حق كان مبذراً‏.‏

فليست هي الكثرة والقلة في الإنفاق‏.‏ إنما هو موضع الإنفاق‏.‏ ومن ثم كان المبذرون إخوان الشياطين، لأنهم ينفقون في الباطل، وينفقون في الشر، وينفقون في المعصية‏.‏ فهم رفقاء الشياطين وصحابهم ‏{‏وكان الشيطان لربه كفورا‏}‏ لا يؤدي حق النعمة، كذلك إخوانه المبذرون لا يؤدون حق النعمة، وحقها أن ينفقوها في الطاعات والحقوق، غير متجاوزين ولا مبذرين‏.‏

فإذا لم يجد إنسان ما يؤدي به حق ذوي القربى والمساكين وابن السبيل واستحيا أن يواجههم، وتوجه إلى الله يرجو أن يرزقه ويرزقهم، فليعدهم إلى ميسرة، وليقل لهم قولاً ليناً، فلا يضيق بهم صدره، ولا يسكت ويدعهم فيحسوا بالضيق في سكوته، ففي القول الميسور عوض وأمل وتجمل‏.‏

وبمناسبة التبذير والنهي عنه يأمر بالتوسط في الإنفاق كافة‏:‏

‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا‏}‏‏.‏

والتوازن هو القاعدة الكبرى في النهج الإسلامي، والغلو كالتفريط يخل بالتوازن‏.‏ والتعبير هنا يجري على طريقة التصوير؛ فيرسم البخل يداً مغلولة إلى العنق، ويرسم الإسراف يداً مبسوطة كل البسط لا تمسك شيئاً، ويرسم نهاية البخل ونهاية الإسراف قعدة كقعدة الملوم المحسور‏.‏

والحسير في اللغة الدابة تعجز عن السير فتقف ضعفاً وعجزاً‏.‏ فكذلك البخيل يحسره بخله فيقف‏.‏ وكذلك المسرف ينتهي به سرفه إلى وقفة الحسير‏.‏ ملوماً في الحالتين على البخل وعلى السرف، وخير الأمور الوسط‏.‏

ثم يعقب على الأمر بالتوسط بأن الرازق هو الله‏.‏ هو الذي يبسط في الرزق ويوسع، وهو الذي يقدر في الرزق ويضيق‏.‏ ومعطي الرزق هو الآمر بالتوسط في الأنفاق‏:‏

‏{‏إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه كان بعباده خبيراً بصيرا‏}‏‏.‏

يبسط الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر، ويقدر الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر‏.‏ ويأمر بالقصد والاعتدال، وينهى عن البخل والسرف، وهو الخبير البصير بالأقوام في جميع الأحوال؛ وقد أنزل هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في جميع الأحوال‏.‏

وكان بعض أهل الجاهلية يقتلون البنات خشية الفقر والإملاق؛ فلما قرر في الآية السابقة أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق في المكان المناسب من السياق‏.‏ فما دام الرزق بيد الله، فلا علاقة إذن بين الإملاق وكثرة النسل أو نوع النسل؛ إنما الأمر كله إلى الله‏.‏ ومتى انتفت العلاقة بين الفقر والنسل من تفكير الناس، وصححت عقيدتهم من هذه الناحية فقد انتهى الدافع إلى تلك الفعلة الوحشية المنافية لفطرة الأحياء وسنة الحياة‏:‏

‏{‏ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطأً كبيرا‏}‏‏.‏‏.‏

إن انحراف العقيدة وفسادها ينشئ آثاره في حياة الجماعة الواقعية، ولا يقتصر على فساد الاعتقاد والطقوس التعبدية‏.‏ وتصحيح العقيدة ينشئ آثاره في صحة المشاعر وسلامتها، وفي سلامة الحياة الاجتماعية واستقامتها‏.‏ وهذا المثل من وأد البنات مثل بارز على آثار العقيدة في واقع الجماعة الإنسانية‏.‏ وشاهد على أن الحياة لا يمكن إلا أن تتأثر بالعقيدة، وأن العقيدة لا يمكن أن تعيش في معزل عن الحياة‏.‏

ثم نقف هنا لحظة أمام مثل من دقائق التعبير القرآني العجيبة‏.‏

ففي هذا الموضع قدم رزق الأبناء على رزق الآباء‏:‏ ‏{‏نحن نرزقهم وإياكم‏}‏ وفي سورة الأنعام قدم رزق الآباء على رزق الأبناء‏:‏ ‏{‏نحن نرزقكم وإياهم‏}‏ وذلك بسبب اختلاف آخر في مدلول النصين‏.‏ فهذا النص‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم‏}‏‏:‏ والنص الآخر ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم‏}‏ هنا قتل الأولاد خشية وقوع الفقر بسببهم فقدم رزق الأولاد‏.‏ وفي الأنعام قتلهم بسبب فقر الآباء فعلاً‏.‏ فقدم رزق الآباء‏.‏ فكان التقديم والتأخير وفق مقتضى الدلالات التعبيرية هنا وهناك‏.‏

ومن النهي عن قتل الأولاد إلى النهي عن الزنا‏:‏

‏{‏ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا‏}‏‏.‏

وبين قتل الأولاد والزنا صلة ومناسبة وقد توسط النهي عن الزنا بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس لذات الصلة وذات المناسبة‏.‏

إن في الزنا قتلاً من نواحي شتى‏.‏ إنه قتل ابتداء لأنه إراقة لمادة الحياة في غير موضعها، يتبعه غالباً الرغبة في التخلص من آثاره بقتل الجنين قبل أن يتخلق أو بعد أن يتخلق، قبل مولده أو بعد مولده فإذا ترك الجنين للحياة ترك في الغالب لحياة شريرة، أو حياة مهينة، فهي حياة مضيعة في المجتمع على نحو من الأنحاء‏.‏‏.‏ وهو قتل في صورة أخرى‏.‏ قتل للجماعة التي يفشو فيها، فتضيع الأنساب وتختلط الدماء، وتذهب الثقة في العرض والولد، وتتحلل الجماعة وتتفكك روابطها، فتنتهي إلى ما يشبه الموت بين الجماعات‏.‏

وهو قتل للجماعة من جانب آخر، أذ أن سهولة قضاء الشهوة عن طريقه يجعل الحياة الزوجية نافلة لا ضرورة لها، ويجعل الأسرة تبعة لا داعي إليها، والأسرة هي المحضن الصالح للفراخ الناشئة، لا تصح فطرتها ولا تسلم تربيتها إلا فيه‏.‏

وما من أمة فشت فيها الفاحشة إلا صارت إلى انحلال، منذ التاريخ القديم إلى العصر الحديث‏.‏ وقد يغر بعضهم أن أوربا وأمريكا تملكان زمام القوة المادية اليوم مع فشو هذه الفاحشة فيهما‏.‏ ولكن آثار هذا الانحلال في الأمم القديمة منها كفرنسا ظاهرة لا شك فيها‏.‏ أما في الأمم الفتية كالولايات المتحدة، فإن فعلها لم تظهر بعد آثاره بسبب حداثة هذا الشعب واتساع موارده كالشاب الذي يصرف في شهواته فلا يظهر أثر الإسراف في بنيته وهو شاب ولكنه سرعان ما يتحطم عندما يدلف إلى الكهولة فلا يقوى على احتمال آثار السن، كما يقوى عليها المعتدلون من أنداده‏!‏

والقرآن يحذر من مجرد مقاربة الزنا‏.‏ وهي مبالغة في التحرز‏.‏ لأن الزنا تدفع إليه شهوة عنيفة، فالتحرز من المقاربة أضمن‏.‏ فعند المقاربة من أسبابه لا يكون هناك ضمان‏.‏

ومن ثم يأخذ الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة، توقياً للوقوع فيه‏.‏‏.‏ يكره الاختلاط في غير ضرورة‏.‏ ويحرم الخلوة‏.‏ وينهى عن التبرج بالزينة‏.‏ ويحض على الزواج لمن استطاع، ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع‏.‏ ويكره الحواجز التي تمنع من الزواج كالمغالاة في المهور‏.‏ وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد‏.‏ ويحض على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصنوا أنفسهم‏.‏ ويوقع أشد العقوبة على الجريمة حين تقع، وعلى رمي المحصنات الغافلات دون برهان‏.‏‏.‏ إلى آخر وسائل الوقاية والعلاج، ليحفظ الجماعة الإسلامية من التردي والانحلال‏.‏

ويختم النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا بالنهي عن قتل النفس إلا بالحق‏:‏

‏{‏ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق‏.‏ ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً‏}‏‏.‏

والإسلام دين الحياة ودين السلام، فقتل النفس عنده كبيرة تلي الشرك بالله، فالله واهب الحياة، وليس لأحد غير الله ان يسلبها إلا بإذنه وفي الحدود التي يرسمها‏.‏ وكل نفس هي حرم لا يمس، وحرام إلا بالحق، وهذا الحق الذي يبيح قتل النفس محدد لا غموض فيه، وليس متروكاً للرأي ولا متأثراً بالهوى‏.‏ وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث‏:‏ النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة»‏.‏

فأما الأولى فهي القصاص العادل الذي إن قتل نفساً فقد ضمن الحياة لنفوس ‏{‏ولكم في القصاص حياة‏}‏ حياة بكف يد الذين يهمون بالاعتداء على الأنفس والقصاص ينتظرهم فيردعهم قبل الإقدام على الفعلة النكراء‏.‏ وحياة بكف يد أصحاب الدم أن تثور نفوسهم فيثأروا ولا يقفوا عند القاتل، بل يمضوا في الثأر، ويتبادلوا القتل فلا يقف هذا الفريق وذاك حتى تسيل دماء ودماء‏.‏ وحياة بأمن كل فرد على شخصه واطمئنانه إلى عدالة القصاص، فينطلق آمناً يعمل وينتج فإذا الأمة كلها في حياة‏.‏

وأما الثانية فهي دفع للفساد القاتل في انتشار الفاحشة، وهي لون من القتل على النحو الذي بيناه‏.‏

وأما الثالثة فهي دفع للفساد الروحي الذي يشيع الفوضى في الجماعة، ويهدد أمنها ونظامها الذي اختاره الله لها، ويسلمها إلى الفرقة القاتلة‏.‏ والتارك لدينه المفارق للجماعة إنما يقتل لأنه اختار الإسلام لم يجبر عليه، ودخل في جسم الجماعة المسلمة، واطلع على أسرارها، فخروجه بعد ذلك عليها فيه تهديد لها‏.‏ ولو بقي خارجها ما أكرهه أحد على الإسلام‏.‏ بل لتكفل الإسلام بحمايته إن كان من أهل الكتاب وبإجارته وإبلاغه مأمنه إن كان من المشركين‏.‏ وليس بعد ذلك سماحة للمخالفين في العقيدة‏.‏

‏{‏ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً‏}‏‏.‏‏.‏

تلك الأسباب الثلاثة هي المبيحة للقتل، فمن قتل مظلوماً بغير واحد من تلك الأسباب، فقد جعل الله لوليه وهو أقرب عاصب إليه سلطاناً على القاتل، إن شاء قتله وإن شاء عفا على الدية، وإن شاء عفا عنه بلا دية‏.‏ فهو صاحب الأمر في التصرف في القاتل، لأن دمه له‏.‏

وفي مقابل هذا السلطان الكبير ينهاه الإسلام عن الإسراف في القتل استغلالاً لهذا السلطان الذي منحه إياه‏.‏ والإسراف في القتل يكون بتجاوز القاتل إلى سواه ممن لا ذنب لهم كما يقع في الثأر الجاهلي الذي يؤخذ فيه الآباء والأخوة والأبناء والأقارب بغير ذنب إلا أنهم من أسرة القاتل ويكون الإسراف كذلك بالتمثيل بالقاتل، والولي مسلط على دمه بلا مثله‏.‏

فالله يكره المثلة والرسول قد نهى عنها‏.‏

‏{‏فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا‏}‏ يقضي له الله، ويؤيده الشرع، وينصره الحاكم‏.‏ فليكن عادلاً في قصاصه، وكل السلطات تناصره وتأخذ له بحقه‏.‏

وفي تولية صاحب الدم على القصاص من القاتل، وتجنيد سلطان الشرع وسلطان الحاكم لنصرته تلبية للفطرة البشرية، وتهدئة للغليان الذي تستشعره نفس الولي‏.‏ الغليان الذي قد يجرفه ويدفعه إلى الضرب يميناً وشمالاً في حمى الغضب والانفعال على غير هدى‏.‏ فأما حين يحس أن الله قد ولاه على دم القاتل، وأن الحاكم مجند لنصرته على القصاص، فإن ثائرته تهدأ ونفسه تسكن ويقف عند حد القصاص العادل الهادئ‏.‏

والإنسان إنسان فلا يطالب بغير ما ركب في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص‏.‏ لذلك يعترف الإسلام بهذه الفطرة ويلبيها في الحدود المأمونة، ولا يتجاهلها فيفرض التسامح فرضاً‏.‏ إنما هو يدعو إلى التسامح ويؤثره ويحبب فيه، ويأجر عليه‏.‏ ولكن بعد أن يعطي الحق‏.‏ فلولي الدم أن يقتص أو يصفح‏.‏ وشعور ولي الدم بأنه قادر على كليهما قد يجنح به إلى الصفح والتسامح، أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه ويدفع به إلى الغلو والجماح‏!‏

وبعد أن ينتهي السياق من حرمة العرض وحرمة النفس، يتحدث عن حرمة مال اليتيم، وحرمة العهد‏.‏

‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا‏}‏‏.‏‏.‏

والإسلام يحفظ على المسلم دمه وعرضه وماله، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم «كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله» ولكنه يشدد في مال اليتيم ويبرز النهي عن مجرد قربه إلا بالتي هي أحسن‏.‏ ذلك أن اليتيم ضعيف عن تدبير ماله، ضعيف عن الذود عنه، والجماعة الإسلامية مكلفة برعاية اليتيم وماله حتى يبلغ أشده ويرشد ويستطيع أن يدبر ماله وأن يدفع عنه‏.‏

ومما يلاحظ في هذه الأوامر والنواهي أن الأمور التي يكلف بها كل فرد بصفته الفردية جاء الأمر أو النهي فيها بصيغة المفرد؛ أما الأمور التي تناط بالجماعة فقد جاء الأمر أو النهي فيها بصيغة الجمع، ففي الإحسان للوالدين وإيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل، وعدم التبذير، والتوسط في الإنفاق بين البخل والسرف، وفي التثبت من الحق والنهي عن الخيلاء والكبر‏.‏‏.‏ كان الأمر أو النهي بصيغة المفرد لما لها من صبغة فردية‏.‏ وفي النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا وعن قتل النفس، والأمر برعاية مال اليتيم والوفاء بالعهد، وإيفاء الكيل والميزان كان الأمر أو النهي بصيغة الجمع لما لها من صبغة جماعية‏.‏

ومن ثم جاء النهي عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن في صيغة الجمع، لتكون الجماعة كلها مسؤولة عن اليتيم وماله، فهذا عهد عليها بوصفها جماعة‏.‏

ولأن رعاية مال اليتيم عهد على الجماعة ألحق به الأمر بالوفاء بالعهد إطلاقاً‏.‏ ‏{‏وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا‏}‏‏.‏‏.‏ يسأل الله جل جلاله عن الوفاء به، ويحاسب من ينكث به وينقضه‏.‏

وقد أكد الإسلام على الوفاء بالعهد وشدد‏.‏ لأن هذا الوفاء مناط الاستقامة والثقة والنظافة في ضمير الفرد وفي حياة الجماعة‏.‏ وقد تكرر الحديث عن الوفاء بالعهد في صور شتى في القرآن والحديث؛ سواء في ذلك عهد الله وعهد الناس‏.‏ عهد الفرد وعهد الجماعة وعهد الدولة‏.‏ عهد الحاكم وعهد المحكوم‏.‏ وبلغ الإسلام في واقعه التاريخي شأوا بعيدا في الوفاء بالعهود لم تبلغه البشرية إلا في ظل الإسلام‏.‏

ومن الوفاء بالعهد إلى إيفاء الكيل والميزان‏:‏

‏{‏وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم‏.‏ ذلك خير وأحسن تأويلا‏}‏‏.‏‏.‏

والمناسبة بين الوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والميزان ظاهرة في المعنى واللفظ، فالانتقال في السياق ملحوظ التناسق‏.‏

وإيفاء الكيل والاستقامة في الوزن، أمانة في التعامل، ونظافة في القلب، يستقيم بهما التعامل في الجماعة، وتتوافر بهما الثقة في النفوس، وتتم بهما البركة في الحياة‏.‏ ‏{‏ذلك خير وأحسن تأويلا‏}‏‏.‏‏.‏ خير في الدنيا وأحسن مآلاً في الآخرة‏.‏

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه، ليس به إلا مخافة الله، إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير من ذلك»‏.‏

والطمع في الكيل والوزن قذارة وصغار في النفس، وغش وخيانة في التعامل تتزعزع بهما الثقة، ويتبعها الكساد، وتقل بهما البركة في محيط الجماعة، فيرتد هذا على الأفراد؛ وهم يحسبون أنهم كاسبون بالتطفيف‏.‏

وهو كسب ظاهري ووقتي، لأن الكساد في الجماعة يعود على الأفراد بعد حين‏.‏

وهذه حقيقة أدركها بعيدو النظر في عالم التجارة فاتبعوها، ولم يكن الدافع الأخلاقي، أو الحافز الديني هو الباعث عليها؛ بل مجرد إدراكها في واقع السوق بالتجربة العملية‏.‏

والفارق بين من يلتزم إيفاء الكيل والميزان تجارة، ومن يلتزمه اعتقاداً‏.‏‏.‏ أن هذا يحقق أهداف ذاك؛ ويزيد عليه نظافة القلب والتطلع في نشاطه العملي إلى آفاق أعلى من الأرض، وأوسع في تصور الحياة وتذوقها‏.‏

وهكذا يحقق الإسلام دائماً أهداف الحياة العملية وهو ماض في طريقه إلى آفاقه الوضيئة وآماده البعيدة، ومجالاته الرحيبة‏.‏

والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة‏.‏ فلا يقوم شيء فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة‏:‏ ‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏.‏ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً‏}‏‏.‏‏.‏

وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجاً كاملاً للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثاً جداً، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله، ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة‏!‏

فالتثبت من كل خير ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق‏.‏

ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة‏.‏ ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل‏.‏ ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم‏.‏

والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى، ويجعل الإنسان مسؤولاً عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد‏.‏‏.‏

إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب‏.‏ أمانة يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعاً‏.‏ أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلما أصدر حكماً على شخص أو أمر أو حادثة‏.‏

‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏}‏‏.‏‏.‏ ولا تتبع ما لا تعلمه علم اليقين، وما لم تتثبت من صحته‏:‏ من قول يقال ورواية تروى‏.‏ من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل‏.‏ ومن حكم شرعي أو قضية اعتقادية‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»‏.‏ وفي سنن أبي داود‏:‏ «بئس مطية الرجل‏:‏ زعموا» وفي الحديث الآخر «إن أفرى الفري أن يُريَ الرجل عينيه ما لم تريا»‏.‏

وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه، والتثبت في استقرائه‏:‏ إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكماً ولا يبرم الإنسان أمراً إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها‏.‏ ‏{‏إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم‏}‏ حقاً وصدقاً‏.‏‏.‏

وتختم هذه الأوامر والنواهي المرتبطة بعقيدة التوحيد بالنهي عن الكبر الفارغ والخيلاء الكاذبة‏:‏

‏{‏ولا تمش في الأرض مرحاً‏.‏ إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا‏}‏‏.‏‏.‏

والإنسان حين يخلو قلبه من الشعور بالخالق القاهر فوق عباده تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان، أو قوة أو جمال‏.‏ ولو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله، وأنه ضعيف أمام حول الله، لطامن من كبريائه، وخفف من خيلائه، ومشى على الأرض هوناً لا تيهاً ولا مرحاً‏.‏

والقرآن يجبه المتطاول المختال المرح بضعفه وعجزه وضآلته‏:‏ ‏{‏إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً‏}‏ فالإنسان بجسمه ضئيل هزيل، لا يبلغ شيئاً من الاجسام الضخمة التي خلقها الله‏.‏

إنما هو قوي بقوة الله، عزيز بعزة الله، كريم بروحه الذي نفخه الله فيه، ليتصل به ويراقبه ولا ينساه‏.‏

ذلك التطامن والتواضع الذي يدعو إليه القرآن بترذيل المرح والخيلاء، أدب مع الله، وأدب مع الناس‏.‏ أدب نفسي وأدب اجتماعي‏.‏ وما يترك هذا الأدب إلى الخيلاء والعجب إلا فارغ صغير القلب صغير الاهتمامات‏.‏ يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته، ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «من تواضع لله رفعه فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير‏.‏ ومن استكبر وضعه الله، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير‏.‏ حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير»‏.‏

وتنتهي تلك الأوامر والنواهي والغالب فيها هو النهي عن ذميم الفعال والصفات بإعلان كراهية الله للسيئ منها‏:‏

‏{‏كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً‏}‏‏.‏

فيكون في هذا تلخيصاً وتذكيراً بمرجع الأمر والنهي وهو كراهية الله للسيئ من تلك الأمور‏.‏ ويسكت عن الحسن المأمور به، لأن النهي عن السيئ هو الغالب فيها كما ذكرنا‏.‏

ويختم الأوامر والنواهي كما بدأها بربطها بالله وعقيدة التوحيد والتحذير من الشرك‏.‏ وبيان أنها بعض الحكمة التي يهدي إليها القرآن الذي أوحاه الله إلى الرسول‏:‏

‏{‏ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحورا‏}‏‏.‏

وهو ختام يشبه الابتداء‏.‏ فتجيء محبوكة الطرفين، موصولة بالقاعدة الكبرى التي يقيم عليها الإسلام بناء الحياة، قاعدة توحيد الله وعبادته دون سواه‏.‏‏.‏